صباح الميدان يا تحرير
الإنسان
صباح الميدان كل يوم هو المتحكم الأول فى عنونة الصباح . تشق السيارة
طريقها لأكون علي مكتبي قبل السابعة والنصف صباحاً. يفتح النهار آفاق التشكيل
للسؤال . تسأل العجلات أسفلت ميدان التحرير و تنادي أبهِرنا بما لديك من الإجابات
و أطرح ما فى جعبتك من حوارات و فلسفات عسي أن نجد أنفسنا فى الإجابة فنهدأ و
تنتابنا المعرفة فنغامر وندق أبواب السكينة .
يالها من مفارقات يومية تصعد و تهبط بنا نصبر لعلها موسمية و نفاجأ بأنها
أعاصير موزعة علي أربع و عشرين ساعة تنغلق و تنفتح لتمنحنا الفعل و رد الفعل فنعبر
إلي الأمل أحيانا˝.
فبحكم العمل اليومي بإحدي شركات التأمين
القطاع العام بأول شارع طلعت حرب و البوابة الأخري بشارع قصر النيل . لنا
السبق الفعلي علي كل الأخبار و المشاركات الإعلامية علي أرض الواقع قبل المتلقين و
المشاهدين و المحاورين و جميع القنوات الفضائية فالبث الأول يبدأ من هنا نحن أول
من يستنشق عبير دخان القنابل المسيلة للدموع لفض المعتصمين و المتظاهرين و يصيبنا
يومياً الحظ فى تناول جرعات مكثفة من
القلق و الفزع علي مصر و أبنائها . صوت
الرصاص يعلن صرخات الميدان و تحدي الأسفلت الذي ينهض بدم الشهداء الأبرياء فيشد
أزر المتظاهرين و يبث فى العقل قيمة الموقف و صلابة القول الحق .
تهتز الخيام المترامية فى بوتقة الدوائر المحيطة و الوسطي فى الميدان من
جراء النيران التي توقظ الجالسين و النائمون علي القضية الآنية لتعلن الخلافات و
المناوشات ليعلن صباح الميدان عنونته و سيارات الإسعاف تشارك فى المشهد و سيارة
الشركة تمر فى الميدان و نحن نشارك فى الرؤية البصرية والدهشة الحدثية و ندعو
بقلوبنا لرب العالمين الرحمن الرحيم أن ينجي مصر و شعبها .
نذهب إلي العمل لأننا نشارك بدورنا الحفاظ علي
تماسك اقتصاد مصر - فالعمل عبادة - و مشاركة وطنية قومية وفعلية بصورة أخري لحماية
بلادنا .
كل منا يدافع عن وجهة نظره بما يفيد و لا يضر بلاده ومنشآتها هذا ما نأمله
. نترك سيارة الشركة و قبل أن نصل إلي الرصيف المقابل نلحظ قافلة من المتظاهرين
يمرون أمامنا ويقطعون الطريق للسير و علي وجوههم صباح الإرادة والغضب .
و نحن واقفون نسجل اللحظات و ننتظر حتي تمر القافلة بسلام ثم ندخل من باب
الشركة لبداية العمل اليومي .
نجتهد للتركيز بعد بعض المناقشات . أجلس علي مكتبي لأؤدي دوري أنا الأخري .
فكل منا له دور و مسئولية لا تؤجل من أجل مصر . أطلب فنجان النسكافيه الذي يشاركني
اللحظات و كوب الماء من ماء النيل العظيم أتمعن فى صفائه و أتذكر أجدادي الفراعنة
و تاريخهم العبقري و الذي هو قدوة للعالم . وأتمني أن يحافظ أبناء مصر علي تراث
أجدادهم ويكون العمل و الاجتهاد هو عنوان اللحظة للنهوض بمصرنا من كبوتها وحتي لا
يعلو صوت الخلاف و المعارضة فيجرنا إلي المزيد من الأزمات و الخسائر . ولابد من
الحوار حتي يأتي التصالح و التسامح كما جاء فى جميع الأديان .
كفانا خلافات و اختلافات و شهداء و دماء و مداخلات من هنا و هناك هكذا
نتمني و نردد أدعية الصباح و نستطرد فى العمل و بعد آذان الظهر نسمع دوي تبادل
الرصاص . يتحول الأوكسجين الي ثاني أكسيد الكربــــون من عوادم رائحة القنابل
المسيلة للدموع فالمشهد فى الخارج به صدام نسمعه عن بعد و يلاحقنا توابعه نظل نعمل
من أجل مصر . عدد كبير منا أصابه أمراض صدرية و أزمات أخري صحية من تتابع الأحداث
اليومية و نستمر فى العمل حتي تأتي لحظات أخري تبشرنا بأصوات المتظاهرين و هتافات
تعلو ( نرفض نرفض – يسقط يسقط ) نسمع صوت خطواتهم العازمة ونداءاتهم الحازمة
القوية و نحن جالسون نظل نعمل حفاظاً علي استكمال برنامج العمل اليومي لأنه يؤثر
علي كيان الاقتصاد المصري و النتائج المالية و الأرباح . فلابد أن أقوم بدوري تجاه
مصر أنا و زملائي و جميع العاملين بالمؤسسات المحيطة سواء بنوك أو شركات تأمين أو
شركات سياحة أو مصارف أو مستشفيات أو عيادات أو محلات . الكل يتابع حركة العطاء و العمل
من أجل مصر و المعتصمون والمتظاهرون والشهداء يدافعون عن الحق من أجل مصر فالهدف
واحد والأفعال تختلف الكل يعطي من أجل مصر .
تمر الساعات و نظل نعمل حتي يحين ميعاد الانصراف فى الثالثة و النصف عصراً
ننتظر سيارات الشركة و يغادر كل منا ميدان العمل الي طريق آخر و حياة أخري و ميدان
مختلف حتي يأتي صباح يعلن فيه ميدان التحرير عنونته للصباح المقبل .
تتجه السيارة إلي طريق الكورنيش من أمام ميدان عبد المنعم رياض لأن ميدان
التحرير أغلقه المعتصمون .
تمر السيارة من أمام المتحف المصري ثم أسفل كوبري أكتوبر أمام فندق هيلتون القاهرة
لتصل بطريقها المعتاد من الكورنيش الي المنيل و تمر بالنفق الموازي لفندق شبرد
وفندق سيميراميس لنفاجأ بأن سيارة شرطة مشتعلة أسفل النفق والنيران تحيط النفق و
السيارات الملاكي تعبر بصعوبة بالغة فما بالك بهذه السيارة الكبيرة التي تحمل ما
يقرب من خمسة و ثلاثين موظفاً أو أكثر تعلو حناجرهم بالأدعية للرحمن الرحيم و
كأننا فى موقعة حربية يشهد لها الزمان والتاريخ يوقع أسانيده و الله يحمينا
برعايته .
مشرف السيارة هب واقفاً ليشارك السائق القرار و الجميع فى حالة ترقب يصحبنا
الدعاء للنجاة من النار و نصلي علي رسولنا الكريم عليه الصلاة و السلام حتي لا
تعلق النار بإطارات السيارة . يخترق السائق اللحظات و قلوبنا معه . نغلق النوافذ
حتي لا تتطاير بقايا العوادم إلي الداخل وبعضنا لا يحتمل هذا الدخان الصارخ . يقف
بعضنا من هول الصدمة و المفاجأة و كأنه عصر النهاية . تتبادر الأفكار وتراودني .
حمدت الله أنني هذا العام ذهبت لأداء فريضة الحج ( جنة الله فى الأرض ) و تذكرت
أبنائي و حصنتهم بالدعاء و حمدت الله أن لي مكافأة عند وفاتي و معاشاً وبعض ما
يطمئنني علي عدم احتياجهم لأحد بعد وفاتي فهدأ قلبي تجاههم و لكن قلقي علي أمي مصر
ماذا تفعل هذه العظيمة من جراء الحوادث و الأحزان و الاعتصامات و التوابع و عدم
الاستقرار و المؤامرات و المكائد و الصراعات . متي تنجو من هذه الكبوة . بالتأكيد
سينصرها الله ما دام بها هذا الشعب الأصيل و سيتضح غداًمن معها و من ضدها و من
العابث ومن يقودها للأمان إن شاء الله .
انتفضنا بالحمد لله بعد ما مرت السيارة من النفق النيراني بسلام.
البعض منا انتابه البكاء و الآخر علا صوته (حسبي الله و نعم الوكيل) فيمن
يخرب مصر و البعض تناول المناقشة و الحوار حتي وصلنا الي جاردن سيتي علي الكورنيش
أيضاً.
توقفت السيارة فعلي الطريق الموازي مظاهرات لمعتصمين يقطعون الطريق لمطالب
فئوية خلف السفارة و أمام الوزارة .
الساعة الآن تدق الخامسة مساءً و ما زلنا فى الطريق و كأننا علي سفر مع
كاميرات الحكي البصري .
تمكن السائق من السير و المواصلة حتي المنيل ثم إلي كوبري عباس حتي مدخل
الجيزة .
اعتصامات و مظاهرات أخري من عمال و موظفي شركة السجائر و الدخان فى مدخل
الهرم و الطريق مغلق ياله من يوم يشبه ما قبله يعلوه صياح الرفض .
وقف المشرف ليعلن قراره للسائق أن يأخذ طريق كوبري فيصل لعله أقل
إرهاقاً" من الانتظار علي أمل حل المشكلات والإرهاصات و إيجاد حلول لأسئلة
الشارع .
وصلنا الي ش فيصل ثم بعد ذلك إلي شارع الهرم من خلف محافظة الجيزة عن طريق
شارع أحمد كامل و لكننا فوجئنا باعتصام آخر للسائقين أمام المحافظة بشارع الهرم
للاعتراض علي ارتفاع سعر السولار و سيارات تقف علي جانبي الطريق ميكروباص و ملاكي
.
و بعد ما يقرب من نصف ساعة من خوض الطريق حتي وصلت السيارة الي محطة نزولي
و فك اعتقالي من صدمات الساعات و علامات الرفض و صراع الأوقات و الدهشات المغموسة
فى السجن اللحظي .
أخيراً طالت قدمي أسفلت الشارع فى تمام السادسة مساء بين الصور الإجبارية و
التعايش العصبي و قلبي مع المعتصمين بالتحرير و الميادين و الشهداء فى جنة الخلد
رحمهم الله.
أخيراً وصلت للمنزل لأؤدي دوراً
آخر فى مساء الخير ولكنني وجدت التلفاز بمجرد أن انفتح باب الحياة الأخري
بالمنزل نشرة الأخبار تستقبلني كأنها كانت معي تسجل كل الطريق بمفرداته و حقائقه و
أحداثه .
كاميرات الثواني تتابعني و تفترس راحتي و تصنع يومي علي مائدة مساء الميدان
فيلم من تأليف الواقع إخراج الحياة بمصاحبة موسيقي الشارع توزيع اللحظة المصرية
بقلم شعب مصر .